" تهدف حصّة الجغرافيا إلى إعانة الطّفل على بناء تصوّر مهيكل ومعقلن للفضاء الاجتماعيّ. وهو عمل جدّ عسير لأنّ تلميذ المدرسة الابتدائيّة لا يسيطر بعد على مفهوم الفضاء."
لقد ظهرت الجغرافيا بالمفهوم القديم(بمعنى دراسة المواقع والبلدان) منذ الحضارة البابليّة حيث وضع البابليّون أوّل خريطة للعالم منذ ما يزيد عن 4000 سنة، وبلغت أوجها على يد بطليموس صاحب كتاب "الجغرافيا" المشهور.
إنّ الجغرافيا انتقلت تدريجيّا من علم يدرس الأرض والأقاليم والبلدان إلى علم يدرس التّنظيم الفضائيّ للمجتمعات بتأثير ثلاثة عوامل:
-الثّورة العلميّة الّتي رافقت عصر النّهضة في أوروبّا وهو وضع سمح بإدخال الكمّ والقياس إلى الدّراسات الجغرافيّة مثل الإحصاءات والجداول والخطاطات...
-تطوّر الوسائل التّقنيّة الموضوعة على ذمّة الجغرافيّين وهي وسائل ساعدت على رسم الخرائط ومقارنة الفضاءات الاجتماعيّة عن طريق الدّراسات الكمّيّة.
-تطوّر العلوم الإنسانيّة .
التّعريف المعاصر للجغرافيا
تعرّف الجغرافيا اليوم على أنّها "علم إنسانيّ يدرس الفضاء الاجتماعيّ. يهدف مفهوم الفضاء الاجتماعيّ إلى أخذ التّفاعلات الّتي تربط الاجتماعيّ بالفضائيّ... ذلك أنّ الفضاء الّذي يدرسه الجغرافيّ هو الفضاء الّذي ينظّمه المجتمع حسب حاجياته وقيمه الاجتماعيّة."
يؤكّد هذا التّعريف على مفهومين أساسيّين:
-مفهوم تهيئة المجال: مختلف العمليّات الّتي يقوم بها مجتمع ما قصد تنظيم المجال الجغرافيّ الّذي يحيا فيه وامتلاكه. ويدخل في هذا الإطار بناء السّدود وحماية المحيط من التّلوّث وتهيئة مناطق للإنتاج...
-مفهوم العلاقات الاجتماعيّة: غالبا ما نرى المنطق المنظّم للمجتمعات ينعكس على الفضاء الّذي تحيا فيه هذه الأخيرة لينظّم المزارع ووسائل الاتّصال بكيفيّة مميّزة.
1/ تنظيم الفضاء: تهدف دراسة هذه القضيّة إلى فهم توزيع السّكّان على الخريطة وتوزيع الخيرات على المجتمعات السّكنيّة وتفسير ذلك بالرّجوع إلى القيم الّتي تنظّم الحياة الاجتماعيّة للمجموعة المدروسة.
2/ الإستعمال الأيكولوجيّ للمحيط الجغرافيّ: يهتمّ عالم الجغرافيا هنا بالسّؤال حول الطّرق الّتي يستعملها مجتمع ما للمحافظة على الخيرات الطّبيعيّة للمحيط أو للتّفريط فيها أو لإثرائها.
3/ تفريد الفضاء وتمييزه: إنّ التّنظيم الاجتماعيّ للمجموعة يؤول حتما إلى تمييز الفضاء الجغرافيّ إلى طبقات "اجتماعيّة- فضائيّة" ، فالمدينة مثلا تتميّز بأحيائها المختلفة والمبنيّة حسب اختلاف الطّبقات الاجتماعيّة والبلاد تتميّز كذلك بمناطق مختلفة تزيد ثراء وتطوّرا حسب الحالات ويتمّ تفسير ذلك بالاعتماد على السّببيّة الجغرافيّة.
الجغرافيا في تصوّر المدرّسين
قام بعض الباحثين بسبر آراء عيّنة من المعلّمين والمتفقّدين وتمثّل سبر الآراء في الإجابة عن الأسئلة التّالية:
-عرّف الجغرافيا واذكر لم تصلح حسب رأيك؟
-اذكر وضعيّتين استعملت فيهما معارفك الجغرافيّة
-هل تعتبر تكوينك في الجغرافيا كافيا لمواجهة الوضعيّات التّعلّميّة التّعليميّة؟
تبيّن من خلال الأجوبة أنّ:
-نسبة هامّة من المستجوبين يعتبرون الجغرافيا إمّا دراسة فيزيائيّة أو دراسة للموارد الاقتصاديّة للبلد أو عرضا للتّوزيع الدّيموغرافيّ.
-نسبة ضعيفة من المستجوبين تعرّف الجغرافيا على أنّها دراسة العلاقات الّتي تربط الإنسان بمحيطه.
-عدد المستجوبين الّذين يصرّحون بأنّ الجغرافيا تفسّر الواقع تفسيرا علميّا جدّ ضعيفة، وهذا الموقف ينبئ بأنّ أغلب المستجوبين يتصوّرون دروس الجغرافيا معلومات تلقى على التّلاميذ لا مجالا تربويّا يدرّب فيه المتعلّم على تفسير العلاقات بين الإنسان ومحيطه تفسيرا علميّا.
-أغلبيّة المستجوبين يعتبرون تكوينهم الجغرافيّ كافيا وذلك على الرّغم من الثّغرات العلميّة والمنهجيّة الظّاهرة من خلال أجوبتهم.
ولمّا كانت الجغرافيا علما لتفسير الظّواهر في ارتباطها بواقعها، فإنّ تدريسها بالابتدائيّ يهدف أساسا إلى تكوين مفهوم الفضاء الاجتماعيّ لدى المتعلّم حتّى يتمكّن من تفسير الظّواهر الجغرافيّة تفسيرا موضوعيّا.
الجغرافيا في الكتاب المدرسيّ
ينتظر المعلّم من الكتاب المدرسيّ المخصّص للجغرافيا أن يساعده على القيام بعمليّات النّقل البيداغوجيّ وذلك بتطويع المعرفة الجغرافيّة لواقع الفصل دون الابتعاد عن المعرفة العلميّة، وفي ذلك انتظار قيام الكتاب المدرسيّ بالنّقل البيداغوجيّ مع احترام المبادئ التّالية:
-اعتبار الجغرافيا عملا يدرس التّفاعل بين الإنسان و المجال الجغرافيّ( دراسة الفضاء الاجتماعيّ)
-التّأكيد على السّببيّة الجغرافيّة أي على التّمشّي الفكريّ القائم على تفسير الوضعيّات الجغرافيّة تفسيرا علميّا( بعكس الموقف المتمثّل في تقديم معطيات جغرافيّة دون تعليل لأسباب ظهورها).
يهتمّ الكتاب المدرسيّ بتقديم معلومات منفصلة حول التّضاريس، المناخ، التّربة، السّكّان، الفلاحة، الصّناعة والمواصلات دون التّعرّض إلى إمكانيّة إدماج هذه المعارف في تفاعل يفسّر التّفاعل بين الإنسان والمجال الجغرافيّ ويؤسّس لمفهوم الفضاء الاجتماعيّ. ثمّ أنّ التّحليل الّذي يتّبعه الكتاب المدرسيّ هو تحليل ينطلق من تصوّر جغرافي تقليديّ يبدأ بتقديم المعطيات الطّبيعيّة ليمرّ إلى العنصر البشريّ ونشاطاته الاقتصاديّة وكأنّ العنصرين منفصلان.
إنّ هذا التّمشّي الّذي يهمل مفهوم الفضاء الاجتماعيّ، لا يسمح بإعانة المتعلّم على اكتساب السّببيّة الجغرافيّة أي ذلك النّوع من التّفكير الّذي يسمح للطّفل بتفسير الفضاء الاجتماعيّ بمختلف مظاهره تفسيرا علميّا.
كيف نتلافى هذا المنزلق في القسم؟
إنّ اطّلاع المعلّم على المعرفة الجغرافيّة ووعيه بمشاكل النّقل البيداغوجي ّمن شأنهما أن يأثّرا إيجابيّا في سلوكه التّربويّ في القسم وذلك بجعله:
1-ينطلق في درس الجغرافيا من وضعيّة مشكل
2-لا يقتصر على المعلومات الواردة بالكتاب المدرسيّ
3-يقدّم لتلاميذه معلومات جغرافيّة حديثة
4-يعير السّببيّة الجغرافيّة أهمّيّة في تفسيره للظّواهر
الجغرافيا من وجهة نظر المتعلّم
تهدف حصّة الجغرافيا إلى إعانة تلميذ المدرسة الأساسيّة على الارتقاء من التّصوّرات الّتي يحملها الطّفل عن المجال الجغرافيّ الّذي يحيا فيه إلى:
-الأحداث الجغرافيّة
-المفاهيم الجغرافيّة
يأتي الطّفل إلى حصّة الجغرافيا وهو محمّل بتصوّرات حول المجال الجغرافيّ الّذي يحيا فيه ( الأرض، البلدان، النّشاط الاقتصاديّ...) ويتمثّل دور المعلّم في التّعرّف على المعارف الماقبل مدرسيّة لإصلاحها إن كانت خاطئة والاعتماد عليها إن كانت سليمة.
لقد قام أحد الباحثين التّونسيّين ببحث حول تصوّرات لأطفال في مادّة الجغرافيا واستنتج ثلاث نتائج:
1-أنّ أطفال 10 سنوات لهم تصوّرات ماورائيّة حول الأرض: فالأرض ثابتة في الفضاء بفضل وجودها فوق قرني ثور والبحار لا تسقط مياهها لأنّها مشدودة بقدرة الخالق ...
2-أنّ هذه التّصوّرات الماورائيّة حول الأرض تتناقض لدى الأطفال المنتمين إلى فئات ثقافيّة واجتماعيّة محظوظة
3-تتطابق التّصوّرات الّتي يحملها الطّفل حول الأرض مع تصوّرات الجغرافيّين القدامى في ثلاث مستويات:
أ- شكل الأرض: تشبه علبة الجبن الأرض مسطّحة (هيرودوتس)
ب- مركز الأرض: نسبة هامّة من التّلاميذ يضعون قريتهم في مركز الأرض
ج- دوران الأرض: يرفض ثلث المستجوبين فكرة دوران الأرض ( الشّريف الإدريسيّ في الجغرافيّين القدامى يتبنّى نفس التّفكير)
إنّ طفل العاشرة يأتي إلى حصّة الجغرافيا محمّلا بمجموعة من التّصوّرات الماقبل علميّة حول الأرض ولا يتمثّل دور المعلّم في إعطاء التّلميذ المعلومات الجغرافيّة الصّحيحة بقدر ما يتمثّل في إعانته على تعدّي هذه التّصوّرات الّتي تمثّل ، إن بقيت ، عائقا أمام تعلّمه للمعارف الجغرافيّة المتعلّقة بكوكب الرض.
أهداف حصص الجغرافيا
* الأهداف المفهوميّة: نقصد بها أهداف المعرفة ( المفاهيم والمصطلحات الجغرافيّة) . إذا كانت الجغرافيا تهتمّ بدراسة الفضاء الاجتماعيّ فإنّ الأهداف المفهوميّة هي التّالية :
-الفضاء الحسّيّ للتّلاميذ
-الضّاغطات التّاريخيّة، الطّبيعيّة والسّياسيّة المؤثّرة في الفضاء
-فضاء الخرائط
-الفضاء الاقتصاديّ للمجموعة
وبذلك تساهم الحصص المخصّصة لتناول هذه المواضيع في تكوين المواطن القادر على التّأثير في محيطه وعلى تحسين ظروف العيش فيه.
* الأهداف المنهجيّة: تهدف الجغرافيا بالتّعليم الأساسيّ إلى تدريب الطّفل على التّفكير الجغرافيّ وهي لا تتمكّن من تحقيق ذلك إلاّ أذا عوّدته على مشكلة الفضاء الاجتماعيّ وتفسير الظّواهر الجغرافيّة انطلاقا من متغيّرات متعدّدة من ناحية واعتمادا على السّببيّة الجغرافيّة من ناحية ثانية.
* الأهداف المواقفيّة: وتهمّ المواقف الإيجابيّة إزاء المحيط . مثل:
-حبّ الإطّلاع
-الفكر النّقديّ
-التّسامح
-حماية المجال الجغرافيّ والمحافظة على خيراته...
وهي أهداف تشترك حصص أخرى مع مادّة الجغرافيا في تدريب الطّفل على اكتسابها( التّاريخ، التّربية المدنيّة، التّربية الإسلاميّة).