" إنّ المفاهيم الرّياضيّة الّتي نتعامل معها لا مقابل لها في الواقع" بياجيه
تحتلّ مادّة الرّياضيات في مختلف مراحل التّعليم الأساسيّ أهمّيّة قصوى, ناهيك أنّ عدد الحصص المخصّصة لها يناهز أربعة وعشرين ساعة أسبوعيّة وهي منزلة لا يمكن أن تفسّر إلاّ بأهمّيّة الغايات الّتي ترمي هذه المادّة إلى تحقيقها لدى الأطفال.
الغايات الّتي تهدف الرّياضيات إلى تحقيقها:
تتحدّث البرامج الرّسميّة عن غايات تعليميّة, تربويّة واجتماعيّة يهدف تدريس الرّياضيات إلى تحقيقها لكن للوقوف على أهمّيّة هذه الغايات لا بدّ من تحليل المفهوم الإبستيمولوجيّ للرّياضيات خاصّة وأنّ البرامج تتحدّث عن مفاهيم ومحتويات تبدو لأوّل وهلة بسيطة.
ما هي الرّياضيات وما هو التّفكير الرّياضيّ؟
الرّياضيات من وجهة نظر العلماء
يمكن تعريف الرّياضيات على أنّها علم يهتمّ بالكمّيات وقيس العلاقات بين الكمّيات. أمّا الكمّ فهو نوعان: كمّ منفصل(علم العدد) وكمّ متّصل(الهندسة).
ما هو العدد؟
سنحاول تحديد مفهوم العدد من أربع نواحي
أ/ العدد من وجهة نظر الرّياضيّين:
تطالعنا ابستيمولوجيا الرّياضيات بمحاولتين لتعريف العدد: محاولة peano ومحاولة cantor وسنقتصر على محاولة الثّاني لتحديد العدد ابستيمولوجيّا.
نظريّة العدد عند "كانتور"
بنى هذا المفهوم انطلاقا منبحوثه حول المجموعات اللاّمتناهية. فما هي المجموعة؟
يقول: "المجموعة تجمّع أشياء محدّدة ومنفصلة عن الإدراك الحدسيّ أو الفكريّ نسمّيها عناصر المجموعة."
يمكن لنا أن نكوّن مجموعات متقابلة أو متكافئة عندما نتمكّن من ربط كلّ عنصر تابع لمجموعة "م" بعنصر واحد من المجموعة "ن".
ويعرّف " كانتور" المجموعات المتقابلةكالآتي:" نقول أنّ المجموعتين "م" و"ن" متقابلتان عندما نتمكّن من مقارنة كلّ عنصر ينتمي إلى "م" بعنصر واحد ينتمي إلى "ن"."
ب/ العدد من وجهة نظر مؤرّخي العلوم
كيف اكتشفت البشريّة العدد؟
يجمع مؤرّخو الرّياضيات على أنّ مفهوم العدد قد وقع استنباطه تبعا لحاجة الإنسان إلى أداة عمليّة تمكّنه من تذكّر الكمّيّة. ويقول " لايف":" لقد وقع استنباط العدد بالاعتماد على الطّريقة المتمثّلة في " المقابلة عنصرا بعنصر.
تتمثّل هذه الطّريقة في مقابلة كلّ عنصر من عناصر الكمّيّة الّتي نريد عدّها بحصيّة. وفي مرحلة ثانية فإنّالإنسان قد أعطى إسما لكلّ حصيّة ( واحد، اثنان،ثلاثة...) وبذلك تحصّل على نظام من الرّموز المنفصلة عن الكمّيّات المعدودة وهو نظام الأعداد الطّبيعيّة."
يمكن لنا أن نستخلص من هذا العرض السّريع لنشأة العدد أنّ العدد وقع استنباطه انطلاقا من مشاكل حقيقيّة واجهتها البشريّة وتتمثّل في امتلاك وسيلة للتّعامل مع قضيّة أساسيّة هي تذكّر الكمّيّات ومقارنتها فيما بينها وبذلك يصبح العدد مفهوما رياضيّا لا آليّة.
فإذا أردنا تسهيل عمليّات تعلّم الرّياضيات من طرف الطّفل، وجب الانطلاق من مشاكل حقيقيّة تتطلّب من الطّفل اكتشاف المفاهيم الضّروريّة لحلّها، لا العكس ( كما هو الشّأن عندما ننطلق من المجموعات المتكافئة لاكتشاف العدد في بداية السّنة الأولى من التّعليم الأساسيّ).
يقول قي بروسّو:" لا يمكن لأيّ تلميذ أن يقوم بعمل رياضيّ معيّن ما لم يطرح على نفسه مشكلا ولم يحاول حلّه... إنّ أكبر رهان تطرحه علينا تعلّميّة الرّياضيات يتمثّل في إعطاء المفاهيم الرّياضيّة معنى من وجهة نظر الطّفل ، ويعرّف المعنى الّذي يمكن أن تتّخذه معرفة رياضيّة، لا بمجموع الحالات الّتي تطبّق فيها هذه المعرفة فحسب، بل وكذلك بالتّصوّرات الّتي تهدمها والأخطاء الّتي تجنّب الوقوع فيها والاقتصاد الفكريّ الّذي توفّره لمستعملها."
إنّ التّمشّي الذّهنيّ الّذي صاحب اكتشاف العدد يذهب من المحسوس إلى المجرّد لا العكس.يقضي هذا المبدأ بأن ندرّب الطّفل على العمليّات المحسوسة قبل أن نقدّم له المفهوم الرّياضيّ المجرّد، وهو مبدأ يتّفق مع ما يذهب إليه علم النّفس النّشوئيّ القائل بأنّ التّفكير يمرّ من مرحلة الذّكاء الحسيّ الحركيّ قبل الوصول إلى مرحلة الذّكاء المجرّد مرورا بمرحلة العمليّات العينيّة
ج/ العدد من وجهة النّظر الاجتماعيّة
يقول " فيتاقورس"(وهو رياضي يوناني) :" إنّ الأعداد تحكم العالم."
إنّ معنى هذا الإقرار يبقى ساري المفعول إلى الآن نظرا لتوغّل الأعداد والرّياضيات في حياتنا اليوميّة، فالإنسان المعاصر محتاج إلى التّحكّم في نظام العدّ والتّمكّن من العمليّات الرّياضيّة في حياته المهنيّة،الاجتماعيّة أو اليوميّة، ومن ناحية أخرى تمكّننا الرّياضيات من القيام بعمليّات حسابيّة معقّدة، فمقارنة الكمّيّات الكبيرة وقيس المساحات وحساب الأثمان وتوقّع الرّبح أو الخسارة عمليّات تمكّننا الأعداد من القيام بها بطريقة استشرافيّة أي قبل وقوعها.
لأنّ الرّياضيات وسيلة اجتماعيّة متداولة فإنّ الطّفل الّذي يأتينا إلى المدرسة يتوق إلى تعلّم الأعداد تبعا لتوقه العامّ إلىالارتقاء إلى مقام الكهول المقتدرين، كما أنّه لا يأتي خالي الذّهن تماما من القضايا الرّياضيّة بل يحمل معه إدراكا حدسيّا للأعداد وطرقا في حلّ المشاكل الرّياضيّة.
من ناحية أخرى، لا بد ّللمحتويات الرّياضيّة الّتي تقدّم للطّفل بالمدرسة أن تكون صالحة للاستعمال في المحيط الاجتماعيّ، وهذا أمر لم تتوصّل البرامج الرّسميّة للرّياضيات إلى تحقيقه في كلّ الحالات: مثال ذلك الكسور. فهذا المفهوم يستأثر بمكان بارز في برنامج السّادسة خصوصا ولا يكاد يمرّ اختبار دون أننراه يتضمّن تمرينات في الكسور رغم الاستعمالات القليلة لهذا المفهوم وكثرة استعمالات الأعداد العشريّة المعتمدة من طرف الفيزيائيّين في قيس المظاهر الطّبيعيّة.
لعلّ وراء الأهمّيّة الّتي تتمتّع بها الرّياضيات في المؤسّسة التّربويّة سببا في كون الرّياضيات هي لغة كلّ العلوم الأخرى.
د/ الرّياضيات والعلوم الأخرى
يقول" برقسون :" إنّ العلوم تتوق إلى الرّياضيات كمثلها الأعلى."
يقصد بذلك أنّ كلّ العلوم الطّبيعيّة تحاول محاكاة الرّياضيات في استعمال الأعداد والمقادير وذلك لإضفاء الدّقّة والصّحّة والموضوعيّة على مقولاتها.
تنطبق هذه الحقيقة على العلوم الإنسانيّة أيضا ، ذلك أنّ الرّياضيات هي لغة كلّ العلوم وهذا يعطي لقولة "أرسطو" الشّهيرة "لا علم إلاّ بالقياس" كلّ أبعادها الإبستيمولوجيّة.
. الرّياضيات من وجهة نظر المتعلّم
إنّ تعلّم المفاهيم الرّياضيّة من طرف تلميذ المدرسة الأساسيّة يتطلّب قدرات ذهنيّة معقّدة يحدّثنا عنها بياجيه في كتابه " بناء العدد لدى الطّفل" حيث يقول بأنّ امتلاك الطّفل لمفهوم العدد رهين نضج الوظائف الذّهنيّة التّالية:
أ/ مبدأ المحافظة
بالنّسبة للكهل تحافظ الكمّيّات على قيمتها مهما كانت التّغيّرات الجزئيّة أو الشّكليّة الّتي ندخلها على العلاقات بين عناصرها كما في المثال
لقد اختلف تنظيم العناصر داخل هذه المجموعات لكنّ قيمتها بقيت قارّة ( 6عناصر) كما أنّ قيمة مجموعة معيّنة لا تتغيّر عندما أقوم بتعداد عناصرها بطرق مختلفة. نشير أخيرا إلى أنّ الكهل يتعرّف على الأرقام مهما
اختلفت الطّرق الّتي تكتب بها، على أنّها رموز لعدد قارّ. إنّ قدرة الكهل على التّعرّف على استقرار الكمّيّة أو العدد رغم اختلاف أشكاله وتنوّع مظاهره الخارجيّة يرتكز على ما يسمّيه "بياجيه" "مبدأ المحافظة". فهل يمتلك طفل المدرسة هذا المبدإ؟
تفيد الأبحاث العلميّة أنّ هذا المبدأ ليس وراثيّا بل هو مكتسب. فعندما نقدّم للطّفل إناءين بهما نفس كمّيّة الماء ونجعله يلاحظ تساوي كمّيّتي الماء، ثم نفرغ الكمّيّة الموجودة في أحدهما في قارورة طويلة وندع الطّفل إلى إعادة المقارنة فإنّ طفل الخامسة ينكر تساوي الكمّيّتين أمّا طفل السّابعة فيقرّ أنّ الكمّيّة بقيت هي نفسها رغم أنّ شكل الإناء قد تغيّر. من هنا نقول أنّه اكتسب " مبدأ المحافظة".
ب/امتلاك مفهوم التّكافؤ
تعتبر نظريّة المجموعات مفهوم "التّكافؤ عنصرا عنصرا "مفهوما أساسيّا لتحديد العدد وبنائه، ذلك أنّ العدد لا يعدو أن يكون في هذه النّظريّة ممثّلا لصنف من المجموعات المتكافئة. فمتى يمتلك الطّفل مفهوم التّكافؤ الّذي يؤسّس في ذهنه مفهوم العدد؟
التّجربة 1
نقدّم للطّفل مجموعة ( أ ) من الأقراص الحمراء مرتّبة حسب خطّ مستقيم ونطلب منه أن يكوّن مجموعة ( ب ) من الأقراص الخضراء مماثلة للمجموعة ( أ ).
في سنّ الخامسة نرى الأطفال يركّبون مجموعة الأقراص الخضراء (ب) بطريقة تكون فيها غير متكافئة مع (أ) ولكنّها تحتلّ نفس الفضاء الّذي تحتلّه المجموعة (أ)
مجموعة (أ) o o o o o o o
مجموعة (ب) ooo o ooo oo oo
أمّا في سنّ السّادسة فإنّ الطّفل يصبح قادرا على تصفيف المجموعة (ب) بكيفيّة تكون متقابلة مع المجموعة (أ) عنصرا بعنصر. لكنّ التكافؤ عند طفل السّادسة يبقى غير مستقرّ. أمّا في سنّ السّابعة، فإنّ الطّفل يقرّ بثبات التّكافؤ حتّى عندما يتغيّر الشّكل الخارجيّ للمجموعة.
ج/ مفهوم التّرتيب
وهو ملازم لمفهوم التّكافؤ، فلكي يتمكّن الطّفل من مقارنة المجموعات والحصول على تطابق عدديّ بينها، لا بدّ من ترتيب العناصر الّتي تكوّن كلّ مجموعة والاحتياط لذلك حتّى لا يقع نسيان عنصر أو عناصر أو إعادة عنصر مرّتين.
يتمثّل مبدأ التّرتيب إذن في ترتيب عناصر مجموعة ما حسب مؤشّر معيّن وهو عمل ذهنيّ يؤسّس لبناء مفهوم العدد.إنّ الطّفل يصبح قادرا على التّرتيب ببلوغ سنّ السّادسة